في هذه الحلقة الثانية من كتاب الظلام القادم من الشرق الذي يتحدث عن دور ومخاطر التدخل الإيراني السافر في المنطقة نبين مدى خطورة وتوغل نظام الملالي وإشعال الفتن الطائفية وإذكاء المذهبية على حساب الهوية الوطنية للدول العربية التي فتكت بها إيران تحت ذرائع مشبوهة، وبعد كل فترة نلاحظ أن إيران التي اعلنت منذ انتصار الثورة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وإعلان تصدير ثورتها للخارج، انها باتت جزءا من القوى المناضلة ضد الاستعمار الغربي كما تزعم، ولم تكن تفعل ما تعلنه من شعارات رنانة مناهضة لمعادات الغرب أو أميركا كما تقول، ولم يستشهد إيراني واحد من أجل القدس أو قضية فلسطين الذي وظفتها للاستهلاك المحلي واستعطاف الشعوب العربية والمسلمة، وإنما على العكس تماما لعبت دوراً تدميريا خبيثا في هذه المنطقة وإشغالها بنفسها بصراعات طائفية ومذهبية، تجسدت بمحاولاتها المستمرة لمد وتغذية النعرات الطائفية في البلاد العربية وزرع الفتن لمحاولة تقسيم الأوطان العربية إلى دويلات وأقاليم وطوائف
متناحرة، أغدقت أموالها الطائلة على أوكارها في المنطقة لإشعال الحروب الطائفية بغية إضعافها وتفتيت الهوية الوطنية للدول العربية متناغمة في ذلك مع الكيان الصهيوني الذي تقول جهارا نهاراً بأنها على طرفي نقيض معه، ولكي نتبين حجم المؤامرات الإيرانية، في المنطقة لابد لنا من التوقف عند علاقات إيران بالدول العربية كلا على حدة في حلقات تالية، حيث يبرز بوضوح التدخل الإيراني في كل هذه الدول، التي باتت مسرحاً للتلاعب الإيراني المكشوف، تحت أكثر من يافطة وشعار، في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن وأخيرا في المملكة، ومع ان هذا التدخل الإيراني لم يترك أي بلد عربي، إلا أننا سنتناول في البداية التدخل الإيراني في العراق، وذلك لأسباب كثيرة هي ان إيران دخلت في حرب مباشرة ضد هذا البلد العربي أولا، ثم أنها ما تزال تمارس دورا محوريا سياسيا وامنيا مكشوفا في العراق حتى يومنا هذا، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو:
متى بدأ هذا التدخل وماذا تريد إيران من تدخلها في الشأن العراقي؟
وفي هذا الشأن لن نرجع كثيرا في التاريخ وإنما سنتوقف عند ثلاث مراحل من تاريخ العراق الحديث، الأولى تمتد من تموز / يوليو 1968 حتى سقوط شاه إيران في 11/2/1979، والمرحلة الثانية هي التي تغطي المدة من 11/2/1979 وحتى9/4/2003، أمّا المرحلة الثالثة فتبدأ من يوم استكملت قوات الغزو الأميركي احتلالها للعراق وما تزال، منذ مطلع عشرينات القرن الماضي، ورغم وجود علاقات وصلت فيما بعد حد التحالف الإقليمي المدعوم دوليا في إطار حلف بغداد، فإنّ ذلك لم يكن ليصلح رادعا أخلاقيا أو قانونيا لإيران عن التدخل في الشؤون العراقية مما كان هاجس الساسة العراقيين في ذلك الوقت هو التمدد الإيراني الذي يأخذ طابعا دينيا يعتمد على الطائفية بأبغض أشكالها، ومع وصول حزب البعث إلى السلطة في العراق تزايدت علامات التوتر بين البلدين نتيجة الاختلاف في التوجهات الداخلية والسياسات الإقليمية أو الدولية، إضافة إلى طول الحدود بين البلدين والتي تصل إلى ألف ومائتي كيلومتر، والذي عادة ما يؤدي إلى احتكاكات بين أي بلدين متجاورين، لاسيما إذا كانتا قويتين، ولعل الحدث الأبرز الذي دشنت فيه إيران تدخلها في الشأن العراقي وبشكل واضح، وكما جاء في دراسة للكاتب العراقي نزار السامرائي، في هذه المرحلة هو ما وقع في ليلة 21 /1 /1970 حينما جرت محاولة لإسقاط نظام البعث، دون أنْ يعني ذلك أنّ هذا الحدث الكبير كان أول محاولة تمد إيران أصابعها في العراق فقد سجل التدخل الإيراني تصاعدا في مفرداته في الكثير من الممارسات التي تم ضبطها من قبل الأجهزة الأمنية العراقية، حيث قدمت الحكومة الإيرانية الدعم والغطاء السياسي والمساعدة المالية والعسكرية لما عرف وقتها (بمؤامرة) عبد الغني الراوي، والذي تمكن من الهرب واللجوء إلى إيران، وتتلخص تلك الواقعة حسب السامرائي بأنّ إيران تمكنت من تجنيد بعض السياسيين المعارضين ورجال الدين الناقمين مثل محمد مهدي الحكيم، وكبار الضباط المغامرين، بهدف الاستيلاء على الحكم الجديد والذي لم يمض على قيامه إلا
د. علي القحيص
سنة ونصف السنة، ولكنّ خيوط العملية كانت قد كشفت بما أتاح لحزب البعث الإطاحة الوقائية بمن أراد الإطاحة به، ويبدو أنّ فشل الخطة أحرج إيران كثيرا وجعلها تفكر بالخطوة التالية، ولما وجدت أنّ الظرف لم يعد ملائما لمحاولات انقلاب جديدة، عادت إلى أسلوب قديم سبق وأنْ جربته مرارا وهو العودة إلى ملفات العلاقات الثنائية وما ينظمها من اتفاقيات، حينها أعلنت إيران في وقت لاحق من العام نفسه (1970)، إلغاء المعاهدة الثنائية المنظمة لعلاقات البلدين وحدودهما المشتركة والمعروفة بمعاهدة (1937)، وكان لهذه الخطوة من (طرف واحد رأى في نفسه القدرة الكافية)، لإثارة المشاكل للعراق بالاستعانة بالتأييد الغربي وخاصة من طرف الولايات المتحدة، آثارا بعيدة المدى على فتح أشكال جديدة ومؤثرة من جانب إيران للضغط على حكومة حزب البعث، أخذت تتصاعد بشكل لافت للنظر، وخاصة في المنطقة الكردية في شمال العراق، وهنا أيضا نلمس الأصابع الإيرانية واضحة من خلال تقديم طهران دعما عسكريا متعدد الأوجه، سواء بالأسلحة المختلفة بما فيها الثقيلة، وحتى صواريخ هوك المضادة للطائرات، فضلا عن إقامة معسكرات التدريب (للبيشمركة)، التي يتزعمها الملا مصطفى البارزاني، والذي كان يقود تمردا واسعا في المنطقة الكردية من شمال العراق ضد الحكومة المركزية في بغداد، ولعلّ في انهيار تمرد البارزاني في غضون ساعات، بعد سحب شاه إيران لدعمه وغطائه السياسي عنه، بعد توقيع اتفاقية 6 آذار /مارس 1975 في الجزائر بين الرئيس صدام حسين حينما كان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة، وشاه إيران، ما يؤكد حجم التدخل الإيراني في الشأن العراقي عن طريق إثارة عوامل عدم الاستقرار في العراق ورغم أنّ اتفاقية الجزائر فرضت التزامات متبادلة على البلدين إلا أنّ إيران لم تلتزم ببنودها إذ استضاف شاه إيران داخل بلاده الآلاف من المعارضين الأكراد الذين سبق لهم وأنْ حملوا السلاح ضد الحكومة المركزية، من أجل استخدامهم ضد العراق وقت الضرورة، في حين أنّ الشاه كان يمارس اضطهادا مروعا لأكراد إيران.
وهكذا يمكن أنْ نستخلص بأنّ إيران الشاه كانت توظف إمكاناتها الخاصة، وكذلك تجعل نفسها جسرا لكل من الولايات المتحدة أو إسرائيل، للتدخل في القضية الكردية كي يبقى ملفها ساخنا وجاهزا للتفجير في وجه جارها العراق وقت الحاجة، كما أنّها لم توفر أي ملف بما في ذلك الملف الديني والطائفي، لإشهاره بوجه العراقيين والضغط عليهم.
وبعد وصول آية الله الخميني إلى السلطة في إيران، اعتقد البعض أنّ حقبة صفحة من العلاقات بين إيران والوطن العربي عموما، وبين طهران وبغداد خصوصا، ستفرض نفسها كإحدى حقائق المرحلة الجديدة، بسبب ما يبدو أنّه، رابطة مشتركة بينهما وهي حالة العداء المعلن مع الولايات المتحدة، غير أنّ تلك التوقعات لم تظهر إلى العلن، ولكنْ بصورة معكوسة تماما لما توقعه المراقبون، فما جرى هو أنّ آية الله الخميني فاجأ المنطقة والعالم بمشروع أخطر وأكبر بكثير مما كان يحلم به الشاه، مستندا إلى مبدأ تصدير الثورة الإسلامية ونظرية ولاية الفقيه، وبالاستناد إلى نصوص دستورية فصلت حسب حاجة النظام الإيراني الجديد للهيمنة والتوسع، ولقد جاءت الحرب العراقية الإيرانية حلقة على طريق تحقيق هذا الهدف، وتنطق أحداثها بكثير من وقائعها،وهناك وثائق محفوظة لدى وزارتي الخارجية والدفاع الإيرانيتين تؤكد أن خطط التوسع تم وضعها في زمن الشاه، ويورد الكاتب العراقي نزار السامرائي ما ورد على لسان هاشمي رفسنجاني، الذي كان يشغل منصبي رئيس مجلس الشورى، وممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى، خلال فترة حرب الثماني سنوات، وبعد تمكّن إيران من احتلال الفاو بداية عام 1986، من أنّ خطة احتلال الفاو كانت معدة في أدراج هيئة الأركان الإيرانية منذ عهد الشاه، لعلّ هذا ما يقدم الدليل القاطع على أنّ النظام الذي جاء به الخميني، نجح في تغيير جلد إيران دون أنْ يمس جوهر الإستراتيجية الإيرانية، وهذا ما دفع إلى الواجهة سؤالا مهما وملحا، وهو لماذا وقع التطابق في القناعات الإيرانية في الزمن الأمريكي مع قناعاتها في الزمن الخميني، رافع شعار العداء والمواجهة مع الولايات المتحدة ؟ ثم لماذا وجدت هذه الأفكار طريقها لتترسخ في مرحلة الإعداد لغزو كل من أفغانستان ومن بعدها العراق والمراحل التي أعقبت الاحتلال؟ أي لماذا تتطابق برامج إيران تجاه العراق حينما تكون جزءا من الإستراتيجية الكونية الأميركية مع برامجها حينما تصبح في خندق الثورة الإسلامية؟ كما يتساءل السامرائي، الذي يجيب انه منذ مجيء آية الله الخميني إلى السلطة في إيران، حمل معه من منفاه الاضطراري في النجف، الكثير من حساسيات وعقد الماضي من العراق، ومن حزب البعث، ومن حسابات قديمة يريد تصفيتها مع البلد الذي استضافه بكرم، فحركت لديه أسبابا كثيرة لحقد لم يغسله موقعه الجديد في قيادة الدولة الإيرانية وما تفرضه تلك المسئولية من تخط لأحقاده الشخصية، وبعد برهة وجيزة من مجيء النظام الجديد انطلقت مهمات الخارج لتعصف بأمن الجوار بادئة من مؤشر بوصلتها نحو العراق، وقد لا تدعو الحاجة إلى الذهاب إلى تفاصيل محاولات الاغتيال التي تعرض لها الكثير من المسؤولين العراقيين، والتفجيرات التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد خاصة، ومما تم الإعلان عنه لاحقا مما يؤكد تورط جهات إيرانية رسمية في الإشراف عليها وتهيئة مستلزماتها، ولكنّ عام 1980 كان من الأعوام الصعبة أمنيا في العراق، فقد تحولت مدن عراقية كثيرة إلى ساحات لتنفيذ عمليات قتل وتفجير بشكل يكاد أنْ يكون يوميا، ولعلّ أحداث الجامعة المستنصرية، والتي شهدت محاولة اغتيال الوزير الراحل طارق عزيز وزير خارجية العراق في عهد نظام صدام حسين، ما يمكن اعتماده كنموذج لشكل عمليات حرب مدن من طراز جديد، أشرفت عليه أجهزة إيرانية مرتبطة بكبار المسئولين في النظام الجديد والتي وفرت له التدريب والسلاح والمال والرجال، والكلام للسامرائي، ومنذ عام 1957 قامت مجموعة مسلحة باحتلال حدائق مبنى السفارة البريطانية في بغداد وحاولت إحكام سيطرتها على مكاتب السفارة، لولا تدخل قوى الأمن العراقية التي قتلت المنفذين وأنهت العملية.
في بيروت عام 1981 هناك حادثة أيضا اذ اندفعت شاحنة محمّلة بالمتفجرات نحو المبنى الرئيسي للسفارة العراقية، مما أدى إلى انهياره، ومقتل السفير العراقي عبد الرزاق محمد لفتة، والملحق الصحفي حارث طاقة، وسكرتيرته السيدة بلقيس الراوي عقيلة الشاعر العربي السوري الكبير نزار قباني، وقد تبنت العملية جهة مرتبطة بإيران.
أما الحادث الأبرز في هذه المخططات الإيرانية فكان محاولة اغتيال الرئيس العراقي صدام حسين في مدينة الدجيل (60 كم شمال بغداد) ذات الأغلبية الشيعية، في تموز/يوليو عام 1982، وهي العملية التي تبنتها إيران عبر إعلامها الرسمي، قبل أنْ تعلن الحكومة العراقية عنها، وهذه القضية تم كشف الكثير من ملابساتها وتفاصيلها وأسرارها في المرافعات الخاصة بالقضية التي أخذت الكثير من الشد والجذب والجدل الساخن بين الرئيس الراحل صدام حسين وهيئة المحكمة التي اتهمت بالتحيز، والتحرك باتجاه سياسي بعيد عن سجل القضاء العراقي، وانتهت هذه المحاكمة بإصدار حكم بالإعدام على الرئيس صدام حسين ثم تنفيذ الحكم أول أيام عيد الأضحى الموافق 30/12/2006.
بالإضافة إلى تشكيل فيلق بدر، الذي أسس قبل الحرب العراقية الإيرانية، والذي يعرف الكثيرون من المتابعين الدور الذي كان يقوم به في العراق، ويمكن للمتابع لهذا النص أنْ يستنتج أنّ الدورة الأولى من فيلق بدر قد تخرجت عام 1979، وأنّ الثانية تخرجت عام 1980، قبل اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، مما يعطي مؤشرا على قناعة فعلية بشأن الامتداد الإيراني صوب العراق حاصل.
وهكذا نلاحظ تدخل الجانب الإيراني في أدق تفاصيل الشأن العراقي، أي أنّ إيران تسعى بكل جهد من أجل أنْ تجعل جوهر النظام في العراق بالكيفية التي تحددها.
وفي العشرين من شهر آب/أغسطس 1988، دخل قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وكان يفترض أنْ تبدأ مرحلة من الجهود لحل المشكلات القديمة التي أدت إلى الحرب، والمشكلات التي أفرزتها الحرب، لكنّ الوقائع اللاحقة أكدت أنّ إيران بمجرد أنْ توقف هدير المدافع، باشرت صفحة جديدة من تدخل أكثر تأثيرا في الشأن العراقي، ويمكن متابعتها على مرحلتين، الأولى تبدأ من يوم وقف إطلاق النار وحتى يوم دخول القوات العراقية إلى الكويت، والثانية من 2/8/1990 وحتى بدأ حرب الخليج الثالثة.
تعتبر فترة ما بعد وقف إطلاق النار بموجب قرار مجلس الأمن الدولي المرقم (598) فترة اختبار النوايا بين العراق وإيران ومؤشرا لمرحلة طويلة قادمة، خاصة وأنّ العراق خرج منتصرا من تلك الحرب الطويلة الطاحنة، وأنّ إيران كانت تسعى لاستبيان موضع تستطيع الانطلاق منه لتثبت لشعبها أنّها كانت محقة حينما كانت تدير وجهها عن كل المساعي الدولية لوقف القتال، ولهذا كان طبيعيا أن تبحث عن أية فرصة تتاح لها للانتقام والثأر من بلد كانت تنظر إليه باستصغار، ولذا نراها لا توفر مناسبة إلا واقتنصتها، ولأنّها كانت ما تزال تعاني من عزلة دولية وإقليمية، فقد ركزت على توفير المزيد من الدعم للعراقيين من أصل إيراني، وللعراقيين الذين اختاروا اللجوء إلى إيران، وانتظموا في التشكيلات العسكرية التي أقامتها إيران لهم، برغم أنّ ذلك يمكن أنْ يعيد الوضع على الحدود بين البلدين إلى اللحظة التي سبقت اندلاع الحرب. كما ان حالة التبني القديم للحركة الكردية المسلحة التي بدأت منذ عهد الشاه، ولم تتوقف بمجي آية الله الخميني.
لقد تعرض العراق في الثاني من آب/ أغسطس 1990 حينما دخلت القوات العراقية إلى الكويت، إلى حملة دولية منسقة، ليس بهدف إخراجه من الكويت كما حاولت الدبلوماسية الغربية التي تزعمتها الولايات المتحدة أنْ تقول، وإنّما لتدمير العراق، وإنجازاته الاقتصادية والعلمية،وبفعل الحرب والحصار على العراق تحولت طهران إلى عاصمة تستقبل المسئولين الكبار من شتى أرجاء العالم وحاول العراق مد يده لإيران، والواقع أنّ إيران استجابت في موقف معلن أخفى الكثير من الاستعداد للتحرك في الوقت المناسب ضد العراق، فقبل بدء الحرب في السابع عشر من كانون الثاني/يناير1991 أعلنت إيران أنّ حرس الثورة الإيراني سيبدأ أوسع مناورات عسكرية له جنوب غربي إيران – وهي منطقة الحدود المشتركة مع العراق – وهذا هو الذي وفر الغطاء اللازم لدخول عشرات الآلاف من المسلحين، من فيلق بدر ومن البيشمركة، وبقيادة مباشرة من أفراد حرس الثورة نفسه، ومشاركتهم في إرباك عمل القوات المسلحة العراقية، ومساعدة قوات التحالف الدولي في ضرب خطوط انسحابها من الكويت، بل وضرب أرتالها التي كانت تعاني أصلا من فوضى عارمة أثناء الانسحاب الذي كان يتم في ظروف قصف جوي أميركي لم يشهد العالم له مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية.
يقول الكاتب العراقي نزار السامرائي والمتخصص بهذا الشأن (إن قوات بدر ومعها حرس الثورة، نصبت نقاط سيطرة وهمية على طول خطوط تراجع القوات العراقية، فكانت تقتل الضباط بشكل خاص، وتأسر آخرين مع آلاف من الجنود والذين احتفظت إيران بهم إلى أيام قليلة قبل بدء حرب الخليج الثالثة، وكانوا يتعرضون لمعاملة هي مزيج من معاملة الأسرى الآخرين، ومعاملة المجرمين العاديين، ومعاملة المعتقلين من أعضاء المعارضة الإيرانية، كما كان اعتبار الطيارين الذين هبطوا بطائراتهم في القواعد الإيرانية أسرى، منافيا لكل قواعد القانون الدولي، ولتعهدات إيران أمام العراق أثناء زيارة السيد عزة إبراهيم الدوري نائب الرئيس العراقي حينذاك إلى طهران واتفاقه مع المسئولين الإيرانيين على صيغة التعامل مع القضايا التي ستفرزها الحرب، لكنّ الجانب الإيراني لم يلتزم بأي من التعهدات التي قطعها على نفسه، بل أنّه أصر على عدم إعادة الطائرات المدنية، أو طائرات الشحن العسكري، أو الطائرات الحربية والتي ذكرت مصادر عراقية أنّ عددها يبلغ 148 طائرة من مختلف الأنواع، في حين أنّ إيران تصر على أنّ الرقم لا يصل إلى العشرين).
وتكشف مصادر صحفية غربية النقاب أنّ الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي كان قد عرض على الرئيس الأميركي السابق جورج بوش استعداد إيران التعاون للإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين باعتباره عدوا مشتركا لهما معا، وهذا الاستعداد لم يقتصر على الساحة العراقية بل كان قد بدأ بشكل فاعل في الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001، والذي انتهى بإسقاط نظام طالبان، حيث قدمت إيران معلومات استخبارتيه للأميركيين في حربهم ضد حركة طالبان في الوقت الذي كانت تدعي فيه العداء لواشنطن، وأبلغت هيلاري مان عضو الوفد الأمريكي الذي أجرى حوارات مع الإيرانيين، أن مسؤولا عسكريا إيرانيا كان متحمسا لجعل الأميركيين يغيرون أهدافهم المطلوب قصفها في أفغانستان، ويتساءل الكاتب العراقي السامرائي قائلاً: من حق المراقب المحايد أن يتساءل هل هذا السلوك ينسجم مع الشعار الإسلامي الذي ترفعه إيران ؟ وهل يجوز الاصطفاف مع غير المسلمين في حرب من قبيل التي شنتها الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان؟
واذا كانت إيران قد تدخلت في العراق منذ زمن بعيد، فإن تدخلها في هذا البلد العربي بعد احتلاله من قبل الولايات المتحدة يبدو الأخطر، فبعد نهاية الحرب وإعلان العراق بلدا محتلا من قبل الولايات المتحدة، لم تجد إيران بأسا في القبول بتعامل ودي مع الوضع الجديد، فقد كان كمال خرازي أول وزير خارجية أجنبي يزور بغداد تحت الاحتلال، ومع الوقت بدأت السفارة الإيرانية في العراق تتحول إلى مركز نشاط استخباري وسياسي متعدد المحاور والوجوه، ودبّ النشاط في كل دوائرها لمواكبة التطورات المتسارعة في (عراق أميركا) سعيا لتحويله إلى (عراق إيران). كما يقول السامرائي، الذي يضيف أنّ أميركا لم تكن لتكترث بمساعي إيران في تحويل الإنجازات الأميركية لصالحها، طالما كانت تعتقد بأنّ المرحلة اللاحقة للمشروع الأميركي ستكون إيران بالذات، وطالما كانت تفترض أنّ إيران لم تكن لتفكر بإثارة المشاكل أمام الأمريكان، وطالما ظلت أمريكا على يقين بأنّ (الإرهاب) الذي تواجهه لم يكن إرهابا شيعيا مدعوما من إيران، وإنّما هناك مصلحة مشتركة للطرفين في مواجهة النشاط المسلح المعادي للأميركان، ونظراً لتطابق المصالح بين واشنطن وطهران لم يبد المسئولون في قوات الاحتلال قلقا من دخول (10000) إيراني إلى العراق خلال الأشهر الأولى للاحتلال، فالحدود لم تكن مراقبة من طرف (قوات التحالف)، رغم أنّ الأميركيين كانوا قد وعدوا بمنع أي تسلل منها .
ومن أجل أنْ يحكم الإيرانيون سيطرتهم على مقاليد الأمور في العراق فقد اتخذ مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي قرارا مبكرا بفتح مكتب له في النجف وأسند رئاسته إلى الشيخ محمد مهدي آصفي، وهو إيراني الأصل وأحد مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية في العراق، كما أنّ عشرات الآلاف من الإيرانيين يتم تجنيسهم سنويا، بعد أنْ نجحت عمليات إتلاف السجلات الرسمية إمّا بحرائق متعمدة، أو بدفع رشاوى طائلة، واستخراج وثائق مزورة لهم، وهؤلاء يتم تجنيدهم في مرحلة تأكيد الولاء لخطة العمل المرسومة، للقيام بما يطلب منهم، بما في ذلك العمليات القذرة، من قبيل المشاركة في الخطف والتعذيب وبأساليب لم يعرف العراقيون لها مثيلا من قبل، على كثرة ما مرّ بهم من مآس وويلات، ثم قتلهم وإلقاء جثثهم في المزابل، أو من قبيل مهاجمة الأحياء السكنية أو المساجد.
وهذه التطورات طفت على السطح بعد تفجير القبة الذهبية للروضة العسكرية في سامراء في22/2/2006 ولكنّها من حيث الإعداد لم تكن بنت لحظتها، بل تم التحضير لها طويلا ودمج عشرات الآلاف من مليشيات بدر وجيش المهدي في الأجهزة الأمنية، فأصبحوا أدوات لتنفيذ واجبات مليشياتية ذات أجندة إيرانية، بدلا من حفظ الأمن على أسس مهنية تخدم المشروع الوطني العراقي.
فقد بدأت الإدارة الأميركية تتحدث عن تدخل مؤكد من إيران في الشأن العراقي، ولكنّها كانت على الدوام تحاول حصره في نطاق الحرس الثوري، أي أنّها تعفي الحكومة الإيرانية من مسؤولية ما يقع، و في 11/1/2007 واعتقال خمسة من ضباط استخبارات حرس الثورة الإيرانية، وحينها أعلن نوري المالكي بأنّ القوات الأميركية ستطلق سراحهم في غضون أربع وعشرين ساعة، ومضت المدة المحددة بل ومضت عدة شهور وما زال ضباط حرس الثورة رهن الحجز وأدت التحقيقات معهم على ما ذكر مسؤولون أميركيون إلى كشف المزيد من تفاصيل التدخل الإيراني في العراق، وبعد طول إصرار على النفي، اضطر موفق الربيعي مستشار الأمن الوطني العراقي السابق، إلى الاعتراف بالتدخل الإيراني، ولكنّه في تصريح له لشبكة CNN في 25/ 2 /2007 قال إنّ إيران أوقفت ما أسماه بدعمها للمليشيات الشيعية بالسلاح، واعترف الربيعي بأنّ هناك أدلة على أنّ إيران كانت تقدم هذا الدعم، ويبدو أنّ هذا الاعتراف المتأخر ما كان ليتحقق لولا أنّ الأميركيين لم يعد بوسعهم تكذيب ما يطرحون من معلومات عن إيران، من قبل أطراف ظلت قناعتهم بأنّهم هم الذين جاءوا بهم من المجهول ووضعوهم في واجهة الأحداث.
No comments:
Post a Comment